فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في السورة الكريمة:

قال عليه الرحمة:
سورة التحريم:
قوله جل ذكره: (بسم الله الرحمن الرحيم)
(بسم الله) اسم عزيز يمهل من عصاه، فإذا رجع وناداه.
أجابه ولباه فإن لم يتوسل بصدق قدمه في ابتداء أمره ثم تنصل بصدق ندمه في آخر عمره أوسعه وقبل منه عذرا، وأكمل له ذخرا، وأجزل له برا.
قوله جل ذكره: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم}
جاء في القصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حرّم على نفسه مارية القبطية، وفي الحال حلف ألاّ يطأها شهرا مراعاة لقلب حفصة حيث رأت النبي صلى الله عليه وسلم معها في يومها.
وقيل: حرّم على نفْسِه شرْب العسل لمّا قالت له زوجاته، إِنّا نشم منك ريح المغافير!
- والمغافير صمغ في البادية كريه الرائحة، ويقال: بقلة كريهة الرائحة... فعاتبه الله على ذلك.
وهي صغيرةٌ منه على مذهب منْ جوّز الصغائر عليه، وترْكٌ للأُوْلى على مذهب منْ لم يجوِّز.
وقيل: إنه طلّق حفصة طلقة واحدة، فأمره الله بمراجعتها، وقال له جبريل: إنها صوّامةٌ قوّامة.
وقيل: لم يطلقها ولكن همّ بتطليقها فمنعه الله عن ذلك.
وقيل: لمّا رأته حفصة مع مارية في يومها قال لها: «إنِّي مُسِرٌّ إليك سِرّا فلا تخبري أحدا: إنّ هذا الأمر يكون بعدي لأبي بكر ولأبيك».
ولكن حفصة ذكرت هذا لعائشة، وأوحى الله له بذلك، فسأل النبيُّ حفصة: لِم أخبرتِ عائشة بما قلت؟
فقالت به: ومنْ أخبرك بذلك؟قال «أخبرني الله»، وعرّف حفصة بعض ما قالت، ولم يصرِّحْ لها بجميع ما قالت، قال تعالى: {عرّف بعْضهُ وأعْرض عن بعْضٍ}، فعاتبها على بعضٍ وأعرْض عن بعض- على عادة الكِرام.
ويقال: إن النبي- صلى الله عليه وسلم- لمّا نزلت هذه الآية كان كثيرا ما يقول: «اللهم إني أعوذ بك من كل قاطعِ يقطعني عنك».
وظاهرُ هذا الخطاب عتاب على أنّه مراعاة لقلب امرأته حرّم على نفسه ما احلّ الله له.
والإشارةُ فيه: وجوبُ تقديم حقِّ الله- سبحانه- على كل شيء في كل وقت.
{قدْ فرض الله لكُمْ تحِلّة أيْمانِكُمْ والله موْلاكُمْ وهُو الْعلِيمُ الْحكِيمُ (2)}
أنزل الله ذلك عناية بأمره عليه السلام، وتجاوزا عنه. وقيل: إنه كفّر بعتق رقبة، وعاود مارية.
والله- سبحانه- أجرى سُنّته بأنه إذا ساكن عبْدٌ بقلبه إلى أحدٍ شوّش على خواصِّه محلّ مساكنته غيْرة على قلبه إلى أنْ يُعاود ربّه، ثم يكفيه ذلك- ولكن بعد تطويل مدةٍ، وأنشدوا في معناه:
إذا عُلِّقت روحي حبيبا تعلّقت ** به غيرُ الأيام كل تسْلبنِّيهُ

وقد ألقى الله في قلبِ رسوله صلى الله عليه وسلم تناسيا بينه وبين زوجاته فاعتزلهن، وما كان من حديث طلاق حفصة، وما عاد إلى قلب أبيها، وحديث الكفاية، وإمساكه عن وطء مارية تسعا وعشرين ليلة.. كل ذلك غيْرة من الحق عليه، وإرادتُه- سبحانه- تشويشُ قلوبهم حتى يكون رجوعُهم كلُّهم إلى الله تعالى بقلوبهم.
قوله جلّ ذكره: {إِن تتُوبآ إِلى الله فقدْ صغتْ قُلُوبُكُما وإِن تظاهرا عليْهِ فإِنّ الله هُو موْلاهُ وجِبْرِيلُ وصالِحُ الْمُؤْمِنِين والْملائِكةُ بعْد ظهِيرٌ}.
عاتبهما على السير من خطراتِ القلب، ثم قال: {وإِن تظاهرا عليْهِ...}.
{وصالحُ الْمُؤْمِنِين} منْ لم يكن منهم في قلبه نفاق، مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وجاء: أن عمر بن الخطاب لما سمِع شيئا من ذلك قال لرسول الله: «لو أمرتني لأضربنّ عُنُقها!»
والعتاب في الآية مع عائشة وحفصة رضى الله عنهما إذ تكلمتا في أمر مارية.
ثم قال تعالى زيادة في العتاب وبيان القصة:
{عسى ربُّهُ إِن طلّقكُنّ أن يُبْدِلهُ أزْواجا خِيْرا مِّنكُنّ مُسْلِماتٍ مُّؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تآئِباتٍ عابِداتٍ سآئِحاتٍ ثيِّباتٍ وأبْكارا}.
قوله جلّ ذكره: {يا أيُّها الّذِين ءامنُوا قُوا أنفُسكُمْ وأهْلِيكُمْ نارا وقُوُها النّاسُ والحِجارةُ}.
أي: فقّهوهم، وأدِّبوهم، وادعوهم إلى طاعة الله، وامنعوهم عن استحقاق العقوبة بإرشادهم وتعليمهم.
ودلّت الآيةُ: على وجوبِ الأمرِ بالمعروف في الدّين للأقرب فالأقرب.
وقيل: أظْهِرُا من أنفسكم العبادات ليتعلّموا منكم، ويعتادوا كعادتكم.
ويقال: دلُّوهم على السُّنّةِ والجماعة.
ويقال: علِّموهم الأخلاق الحِسان.
ويقال: مُرُوهم بقبول النصيحة.
{وقُودُها النّاسُ والْحِجارةُ}: الوقود: الحطب.
ويقال: أمر الناس يصلح بحجرة أومدرة، فإن أصل الإنسان مدرة، ولو أنه أقام حجرةٌ مقام مدرة فلا غرو من فضْلِ الله.
اللهمّ فألْقِ فيها بدلنا حجرا وخلِّصْنا منها.
قوله جلّ ذكره: {يا أيُّها الّذِين كفرُواْ لا تعْتذِرُواْ الْيوْم إِنّما تُجْزوْن ما كُنتُمْ تعْملُون}.
إذا فات الوقتُ استفحل الأمرُ، وانغلق البابُ، وسقطت الحِيلُ.... فالواجبُ البِدارُ والفرارُ لتصل إلى روْحِ القرار.
قوله جلّ ذكره: {يا أيُّها الّذِين ءامنُواْ تُوبُواْ إِلى الله توْبة نّصُوحا عسى ربُّكُمْ أن يُكفِّر عنكُمْ سيِّئاتِكُمْ ويُدْخِلكُمْ جنّاتٍ تجْرِى مِن تحْتِها الأنْهارُ}.
التوبةُ النصوحُ: هي التي لا يعقُبها نقْصٌ.
ويقال: هي التي لا تراها من نفْسِك، ولا تبى نجاتك بها، وإنما تراها بربِّك.
ويقال: هي أنْ تجد المرارة في قلبك عند ذكر الزّلّة كما كُنْت تجد الراحة لنفسِك عند فِعْلِها.
قوله جلّ ذكره: {يوْم لا يُخْزِى الله النبي والّذِين ءامنُواْ معهُ نُورُهُمْ يسْعى بيْن أيْدِيِهمْ وبِأيْمانِهِمْ يقولون ربّنآ أتْمم لنا نُورنا واغْفِرْ لنآ إِنّك على كُلِّ شيء قدِيرٌ}.
لا يُخزِي الله النبيّ بِترْكِ شفاعته، والذين آمنوا معه بافتضاحِهم بعد ما قبِل فيهم شفاعته.
{نُورُهُمْ يسْعى بيْن أيْدِيِهمْ وبِأيْمانِهِمْ} عبّر بذلك عن أنّ الإيمان من جميع جهاتهم.
ويقال: بأيمانهم كتابُ نجاتهم: أراد نور توحيدهم ونور معرفتهم ونور إيمانهم، وما يخصُّهم الله به من الأنوارِ في ذلك اليوم.
{يقولون ربّنآ أتْمم لنا نُورنا}: يستديمون التضرُّع والابتهال في السؤال.
قوله جلّ ذكره: {يا أيُّها النبي جاهِدِ الكُفّار والمُنافِقِين واغْلُظْ عليْهِمْ ومأْواهُمْ جهنّمُ وبِئْس المصِيرُ}.
أمره بالمُلاينةِ في وقت الدعوة، وقال: {وجادِلْهُم بِالّتِى هي أحْسنُ} [النحل: 125] ثم لمّا أصرُّوا- بعد بيان الحُجّةِ- قال: {واغْلُظْ عليْهِمْ}: لأن هذا في حالِ إصرارهم، وزوالِ أعذارهم.
قوله جلّ ذكره: {ضرب الله مثلا للذِين كفرُواْ امْرأت نُوحٍ وامْرأت لُوطٍ كانتا تحْت عبْديْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحيْنِ فخانتاهُما فلمْ يُغْنِيا عنْهُما مِن الله شيْئا وقِيل ادْخُلا النّار مع الدّاخِلِين}.
لمّا سبقتْ لهما الفُرْقةُ يوم القِسْمة لم تنفعْهما القربةُ يوم العقوبةُ.
قوله جلّ ذكره: {وضرب الله مثلا للذِين ءامنُواْ امْرأت فِرْعوْن إِذْ قالتْ ربِّ ابْنِ لِى عِندكم بيْتا في الْجنّةِ ونجِّنِى مِن فِرْعوْن وعملِهِ ونجِّنِى مِن الْقوْمِ الظّالِمِين}.
قالوا: صغرت هِمّتُها حيث طلبت بيتا في الجنة، وكان من حقِّها أنْ تطلب الكثير... ولا كما توهمّوا: فإنها قالت: {ربِّ ابْنِ لِى عِندك} فطلبتْ جوار القربة، ولبيْتٌ في الجِوار أفضلُ من ألف قصرٍ في غير الجوار. ومن المعلوم أنّ عِنديّة هنا العِنديّةُ القربة والكرامة.. ولكنه على كل حال بيت له مزية على غيره، وله خصوصية. وفي معناه أنشدوا:
إني لأحْسُد جاركم لجواركم ** طُوبى لِمن أضحى لدارِك جارا

يا ليت جارك باعني من داره ** شِبْرا لأُعطيه بِشِبْر دارا

{ومرْيم ابْنت عِمْران الّتِي أحْصنتْ فرْجها فنفخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وصدّقتْ بِكلِماتِ ربِّها وكُتُبِهِ وكانتْ مِن الْقانِتِين (12)}
ختم السورة بِذكْرها بعد ما ذكر امرأةُ فرعون، وهما من جملة النساء، ولمّا كثُر في هذه السورة ذكْرُ النساء أراد الله سبحانه ألاّ يُخْلى السورة من ذكرها تخصيصا لقدْرِها. اهـ.

.من فوائد ابن تيمية في السورة الكريمة:

وسُئِل رحِمهُ الله عنْ قوله تعالى: {يا أيُّها الّذِين آمنُوا تُوبُوا إلى الله توْبة نصُوحا} هلْ هذا اسْمُ رجُلٍ كان على عهْدِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أمْ لا؟ وأيش معْنى قوله: {نصُوحا}؟
فأجاب: الْحمْدُ لله، قال عُمرُ بْنُ الْخطّابِ رضِي الله عنْهُ وغيْرُهُ مِنْ الصّحابةِ والتّابِعِين رضِي الله عنْهُمْ التّوْبةُ النّصُوحُ: أنْ يتُوب مِنْ الذّنْبِ ثُمّ لا يعُودُ إليْهِ و(نصُوحٌ) هِي صِفةٌ للتّوْبةِ وهِي مُشْتقّةٌ مِنْ النُّصْحِ والنّصِيحةِ. وأصْلُ ذلِك هُو الْخُلُوصُ. يُقال: فُلانٌ ينْصحُ لِفُلانِ إذا كان يُرِيدُ لهُ الْخيْر إرادة خالِصة لا غِشّ فِيها وفُلانٌ يغُشُّهُ إذا كان باطِنُهُ يُرِيدُ السُّوء وهُو يُظْهِرُ إرادة الْخيْرِ كالدِّرْهمِ الْمغْشُوشِ ومِنْهُ قوله تعالى: {ليْس على الضُّعفاءِ ولا على الْمرْضى ولا على الّذِين لا يجِدُون ما يُنْفِقُون حرجٌ إذا نصحُوا لله ورسُولِهِ} أيْ أخْلصُوا لله ورسُولِهِ قصْدهُمْ وحُبّهُمْ. ومِنْهُ قولهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْحديث الصّحِيحِ: «الدِّينُ النّصِيحةُ ثلاثا قالوا: لِمنْ يا رسُول الله؟ قال: لله ولِكِتابِهِ ولِرسُولِهِ ولِأئِمّةِ الْمُسْلِمِين وعامّتِهِمْ» فإِنّ أصْل الدِّينِ هُو حُسْنُ النِّيّةِ وإِخْلاصُ الْقصْدِ؛ ولِهذا قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ لا يغُلُّ عليْهِنّ قلْبُ مُسْلِمٍ: إخْلاصُ الْعملِ لله ومُناصحةُ وُلاةِ الْأُمُورِ ولُزُومُ جماعةِ الْمُسْلِمِين فإِنّ دعْوتهُمْ تُحِيطُ مِنْ ورائِهِمْ» أيْ هذِهِ الْخِصالُ الثّلاثُ لا يحْقِدُ عليْها قلْبُ مُسْلِمٍ بلْ يُحِبُّها ويرْضاها. فالتّوْبةُ النّصُوحُ هِي الْخالِصةُ مِنْ كُلِّ غِشٍّ وإِذا كانتْ كذلِك كائِنة فإِنّ الْعبْد إنّما يعُودُ إلى الذّنْبِ لِبقايا فِي نفْسِهِ فمنْ خرج مِنْ قلْبِهِ الشُّبْهةُ والشّهْوةُ لمْ يعُدْ إلى الذّنْبِ فهذِهِ التّوْبةُ النّصُوحُ وهِي واجِبةٌ بِما أمر الله تعالى؛ ولوْ تاب الْعبْدُ ثُمّ عاد إلى الذّنْبِ قبِل الله توْبتهُ الْأُولى ثُمّ إذا عاد اسْتحقّ الْعُقُوبة فإِنْ تاب تاب الله عليْهِ أيْضا. ولا يجُوزُ للمُسْلِمِ إذا تاب ثُمّ عاد أنْ يُصِرّ؛ بلْ يتُوبُ ولوْ عاد فِي الْيوْمِ مِائة مرّةٍ فقدْ روى الْإِمامُ أحْمد فِي مُسْندِهِ عنْ علِيٍّ عنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنّهُ قال: «إنّ الله يُحِبُّ الْعبْد المفتن التّوّاب» وفِي حديث آخر: «لا صغِيرة مع إصْرارٍ ولا كبِيرة مع اسْتِغْفارٍ» وفِي حديث آخر: «ما أصرّ منْ اسْتغْفر ولوْ عاد فِي الْيوْمِ مِائة مرّةٍ».
ومنْ قال مِنْ الْجُهّالِ: إنّ (نصُوح) اسْمُ رجُلٍ كان على عهْدِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أمر النّاس أنْ يتُوبُوا كتوْبتِهِ: فهذا رجُلٌ مُفْترٍ كذّابٌ جاهِلٌ بِالْحديث والتّفْسِيرِ جاهِلٌ بِاللغةِ ومعانِي القرآن؛ فإِنّ هذا امْرُؤٌ لمْ يخْلُقْهُ الله تعالى ولا كان فِي الْمُتقدِّمِين أحدٌ اسْمُهُ نصُوحٌ ولا ذكر هذِهِ الْقِصّة أحدٌ مِنْ أهْلِ الْعِلْمِ ولوْ كان كما زعم الْجاهِلُ لقِيل تُوبُوا إلى الله توْبة نصُوحٍ وإِنّما قال: {توْبة نصُوحا} والنّصُوحُ هُو التّائِبُ. ومنْ قال: إنّ الْمُراد بِهذِهِ الْآيةِ رجُلٌ أوْ امْرأةٌ اسْمُهُ نصُوحٌ وإِنْ كان على عهْدِ عِيسى أوْ غيْرِهِ فإِنّهُ كاذِبٌ يجِبُ أنْ يتُوب مِنْ هذِهِ فإِنْ لمْ يتُبْ وجبتْ عُقُوبتُهُ بِإِجْماعِ الْمُسْلِمِين. والله أعْلمُ. اهـ.

.قال ابن القيم:

قوله تعالى: {ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط...} الآيات.
فاشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال مثل للكفار ومثلين للمؤمنين فتضمن مثل الكفار أن الكافر يعاقب على كفره وعداوته لله ورسوله وأوليائه ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب أو صلة صهر أو سبب من أسباب الاتصال فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة إلا ما كان منها متصلا بالله وحده على أيدي رسله فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة أو النكاح مع عدم الإيمان لنفعت الوصلة التي كانت بين لوط ونوح وامرأتيهما فلما لم يغنيا عنهما من الله شيئا قيل ادخلا النار مع الداخلين قطعت الآية حينئذ طمع من ركب معصية الله وخالف أمره ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي ولو كان بينهما في الدنيا أشد الاتصال فلا اتصال فوق اتصال البنوة الأبوة والزوجية ولم يغن نوح عن ابنه ولا إبراهيم عن أبيه ولا نوح ولا لوط عن امرأتيهما من الله شيئا قال الله تعالى: {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم} وقال تعالى: {يوم لا تملك نفس لنفس شيئا} وقال تعالى: {واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا} وقال: {واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ولا مولولد هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق} وهذا كله تكذيب لأطماع المشركين الباطلة أن من تعلقوا به من دون الله من قرابة أو صهر أو نكاح أو صحبة ينفعهم يوم القيامة أو يجيرهم من عذاب الله أو هو يشفع لهم عند الله وهذا أصل ضلالة بني آدم وشركهم وهو الشرك الذي لا يغفره الله وهو الذي بعث الله جميع رسله وأنزل جميع كتبه بإبطاله ومحاربة أهله ومعاداتهم.
فصل:
وأما المثلان اللذان للمؤمنين فأحدهما امرأة فرعون ووجه المثل أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئا إذا فارقه في كفره وعمله فمعصية الغير لا تضر المؤمن المطيع شيئا في الآخرة وإن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض إذا أضاعوا أمر الله فتأتي عامة فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به وهو من أكفر الكافرين ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما وهما رسولا رب العالمين المثل الثاني للمؤمنين مريم التي لا زوج لها لا مؤمن ولا كافر فذكر ثلاثة أصناف من النساء المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر والمرأة العزب التي لا وصلة بينها وبين أحد فالأولى لا تنفعها وصلتها وسببها والثانية لا تضرها وصلتها وسببها والثالثة لا يضرها عدم الوصلة شيئا.
ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي ص- والتحذير من تظاهرهن عليه وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله ويردن الدار الآخرة لم ينفعهن اتصالهن برسول الله ص- كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما ولهذا إنما ضرب في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة. قال يحيى بن سلام ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة.
وفي ضرب المثل للمؤمنين بمريم أيضا اعتبار آخر وهو أنها لم يضرها عند الله شيئا قذف أعداء الله اليهود لها ونسبتهم إياها وابنها إلى ما برأهما الله عنه مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين فلا يضر الرجل الصالح قدح الفجار والفساق فيه وفي هذا تسلية لعائشة أم المؤمنين إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك وتوطين نفسها على ما قال فيها الكاذبون إن كانت قبلها كما في ذكر التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذير لها ولحفصة مما اعتمدتاه في حق النبي ص- فتضمنت هذه الأمثال التحذير لهن والتخويف والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد والتسلية وتوطين النفس لمن أوذي منهن وكذب عليه وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه ولاسيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون.
قالوا فهذا بعض ما اشتمل عليه القرآن من التمثيل والقياس والجمع والفرق واعتبار العلل والمعاني وارتباطها بأحكامها تأثيرا واستدلالا.